dimanche 30 décembre 2012

الأغلبية الصــامتة أصــل الــــداء

عبد الرحيم العلام

باحث في العلوم السياسية

 عبد الرحيم العلامكثيرا ما نذهب في انتقاداتنا منحى التركيز على السلطة السياسية، ونستفيض في إبراز مثالبها وسلبياتها. لكننا نغفو عن التطرق لما يصطلح عليه بــ «الأغلبية الصامتة» والتي لا هي مع العير ولا هي مع النفير، إذا ما أردنا توظيف هذا المثل القديم. فهذه الأغلبية، وهي بالفعل أغلبية قياسا على الأقلية الفاعلة في المجتمع ( سلبا أو إيجابا)، مستغرقة في سباتها، مكتفية بالتفرج على ما يحدث، إن تفرجت، تراقب عن بعد، إن راقبت، شعارها الخالد «لا أرى لا أسمع». ولكنها في نفس الوقت تئن في صمت، وتشكو في معزل عن الشأن العام. يجمع بينها قاسم مشترك من سماته لعنة الظلام وانتقاد الكل بما في ذلك نقد الذات، دون تحريك ساكن أو إشعال شمعة.وانتظار الضرر الشخصي والمباشر من أجل التحرك ـ إن تحركت ـ ورب قائل: إن الأغلبية الصامتة

على درجة كبيرة من الوعي ؟ أو ماذا عساها ان تفعل في ظل سيادة العبث السياسي وضبابية الموقف؟.

ونحن إذ لا ننفي عن هذه الأغلبية وعيها (رغم أن لسانها الدارج غالبا ما يتسلط على الشعب ويتهمه بالتخلف وعدم استحقاقه الديمقراطية)، فإننا نؤكد أن الأفق مفتوح أمام هذه الفئة العريضة من الشعب، فقط عليها أن تهجر الرصيف وتنخرط في عمق الأحداث. فهذه الأغلبية الصامتة، جزء منها لا يشارك في الحياة السياسية والمدنية؛ والجزء الثاني لا يشارك إلا خلال فترات محددة وبما يخدم مصلحته الضيقة واللحظية (لا يغير من الوضع بعض الحراكات ذات الصبغة الفئوية التي إن اشتعلت في هذا الحي أو تلك المدينة خذلتها باقي الأحياء وباقي المدن والعكس بالعكس، وكأننا بالمواطن ينتظر أن يتضرر هو شخصيا وبشكل مباشر حتى يستيقظ من سباته)؛ أما الجزء الثالث فيكره كل ما يرمز إلى الشأن العام أو له علاقة بالمجتمعين المدني والسياسي. غير أن الجامع بين هذه الأجزاء هو عدم الرضى على كل شيء، فهي ترفض الأحزاب السياسية الحكومية، وتمقت أحزاب المعارضة، ولاتعرف الكثير عن الأحزاب والجماعات الجذرية. وفي كثير من الحالات ترفض حتى بعض الاحتجاجات الفئوية المنبثقة عن ذات الأغلبية.

ورغم أننا لا نملك الدليل على تقسيم أجزاء الأغلبية على هذا النحو، لأنها ببساطة لا تتكلم حتى نستوعب مرادها، إلا أننا نستشف ذلك خلال من واقع الممارسة. فالمشاركة الانتخابية لم تصل في أي محطة من المحطات نسبة الـ 50 في المائة (آخر انتخابات صوتت فيها 5 ملايين ناخب من أصل 22 مليون يحق لهم التصويت)، وحتى الاستفتاء على الدستور الذي سجلت حوله مجموعة من الملاحظات لم يصل عدد المشاركين فيه 9 ملايين مستفتي بمن فيهم أعضاء الأمن والجيش، كما أن المشاركة في احتجاجات حركة 20 فبراير لم تصل في أقصى أعدادها سقف المليون متظاهر في المغرب بأسره. وأما نسبة الانخراط في الأحزاب والنقابات فهي لا تتجاوز 2.5 في المائة، بينما يعكس واقع حال المجتمع المدني النسبة الحقيقية للمنخرطين في صفوفه، على الرغم من أننا في المغرب نخلط، عندما نتلكم عن المجتمع المدني، بينه وبين المجتمع الأهلي، والفرق بينهما كبير جدا، فالأول يهتم بالمواطن بغض النظر عن دينه أو عرقه أو فئته أو مهنته، بينما الثاني ينبني على المصالح الفئوية المنفلتة من أي بعد مواطني.

يضاف إلى هذا الخلط بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، خلط آخر يقوم على المماهاة بين الوطنية والمواطنة، رغم الفروقات الجلية بين هذين المفهومين، وبهذا يظهر الإعلام الرسمي،مثلا، الحشود التي تخرج عقب فوز منتخب كرة القدم، كمظهر ممن مظاهر المواطنة، بينما المواطنة قبل أن تكون انتماء فهي سلوكا. أي أن المواطنة يجب أن نلمسها في حياتنا اليومية، نصادفها في في اجتماعنا البشري، وفي معاملاتنا البينية، وفي حرصنا على نظافة بيئتنا، وفي غيرتنا على ممتلكاتنا العامة، في عدم تكسير للحافلة عند انهزام منتخبنا، وفي تفانينا في العمل، وفي التضحية بالغالي والنفيس للدفاع عن أرض الوطن. بينما الوطنية هي مجرد شعور بالانتماء إلى الوطن، وهذا الشعور لا يصحو، عادة، إلا لحظة الأفراح (فوز رياضي، نجاح فنان،…) ولكنه يكون غائبا لحظة الأحزان، وقد ينقلب إلى العكس (تخريب الممتلكات في حالة هزيمة، الامتناع عن التضحية في حالة الكوارث…).

لقد غابت عن مجتمعاتنا، نتيجة لتعاقب قرون الاستبداد، فكرة المشاركة الإيجابية، كما تغلغلت الروح الاتكالية المنسحبة، حتى أصبح خياري اللاقرار واللاموقف هما السائدين في بيئتنا واجتماعنا. فبدون مقولة «أنا معني، أنا مشارك، إذن أنا مسؤول» لايمكن للمواطنة أن تتحقق، وبالتالي لايمكن للواقع أن يتغير، وإن تغير فنحو الأسوأ.

وفي ظل هذا الفهم وهذه الممارسة، يستمر تعلق المواطن ءغير المشاركء بالدولة من أجل إنصافه، من غير التمييز بين الدولة وبين القائمين عليها. فالدولة مؤسسة سياسية يرتبط بها المواطنون من خلال تنظيمات متطورة. بينما السلطة هي مجرد موظف لدى الشعب في الأنظمة الديمقراطية، وهي أب «للرعايا» في الدولة المستبدة.

والحال أن هذه الدولة (نماهي هنا بين الدولة والنظام السياسي لمسايرة التصور العامي للدولة) هي عبر التاريخ قوة قمع وإكراه، وجب على المواطن الحذر منها ومراقبتها، وفصل مكوناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. وهو ما يعبر عنه عادة بــ«الديمقراطية»، التي هي مجموعة من المبادئ والأسس والاجرائيات الرامية إلى بناء دولة مدنية ترتكز على دساتير حديثة، وبما يضمن الحرية والمساواة والمواطنية.

ولكن هذه الديمقراطية لايمكنها أن تتكفل بالرقي بالمجتمع في غياب المواطن نفسه، الحريص على حقوقه والمثابر من أجل النهوض بمسؤولياته. فالديمقراطية، كما شبهها البعض عبارة عن عربة بعجلتين؛ واحدة للسلطة وأخرى للمواطنين. لا تسير هذه العجلة بانتظام الا بالعجلتين معًا. وعلى من ينتظر من السلطة السياسية، ولا نقول الدولة، أن تمنحه حقوقه وتحفظ كرامته، أن يدرك أن هذه السلطة لديها أجندة غير تلك التي ينتظرها المواطن. سيما في الدولة التي لم تتذوق لذة الحكم الديمقراطي، حيث النظر إلى الدولة بشكل عام، ليس كمؤسسة عامة، وإنما كمؤسسة خاصة هي أقرب للضيعة منها إلى كيان عام ينبني على المواطنة والمساواة.

وما على المواطن، إذا أراد تجسيد مواطنيته، إلا تجاوز سلبيته، وما على الأغلبية الصامتة إلا مغادرة أغلال السلبية التي كبلت نفسها بها، وأن تتكتل ضمن هيئات المجتمع المدني الحقيقي (إذا لم تقتنع بما هو كائن وجب التفكير في تأسيس غيره)، لأنه قبل أن يكون للإنسان حق، عليه أن يكون لديه وعي به أولا، وأن يكون لديه تنظيم ثانيا، فبدون وعي بالحقوق وبدون تنظيمات مدنية تهدف إلى التعبير والتغيير السلميين لن يحدث التغيير المنشود؛ مع العلم بأن الانتظارية والسلبية تقتلان الجميع، وكما قال أفلاطون «الثمن الذي يدفعه الطيبون، مقابل لا مبالاتهم بالشأن العام، هو أن يحكمهم الأشرار».

وكما يقول «بول فاليري» فإن «كل سلطة تميل إلى التسلط، لذلك فهي تتطلب مواطنين واعين، مشاركين، يتعاطون دائمًا الشأن العام. ويصبح أي موضوع ميؤوسًا منه بشكل مطلق في حالة واحدة:عندما تستقيل الإرادة»(أنطوان مسرة: المواطنية والسلطة والعدالة). كما يجب الحذر من السياسة السياسوية التي هي فن إلهاء الناس عن الاهتمام بأمورهم في جانبها العام، بعدما عرفت السياسة، في مفهومها النبيل، باعتبارها «فن الممكن». وعندما يقلع المواطن على تعاطي الشأن العام والانسحاب من الحياة العامة، فإن الدكتاتورية ــ كما عبر عن ذلك توكفيل ــ تصبح قاب قوسين أو دنى بالنسبة للدولة الديمقراطية، وأما بالنسبة للدولة الخاضعة للحكم الاستبدادي فإن النتيجة ــ بسبب الابتعاد عن الشأن العام ــ هي عقودا أخرى، إن لم نقل قرونا، من الدكتاتورية والتسلط والتحكم.

لابد إذن، من وضع كل فرد أمام مسؤولياته، فالإصلاح مرهون بمساهمة كل مواطن في بناء لبناته. فعندما يضعف المجتمع السياسي أو يتهاون أو يختبئ وراء صناديق الانتخاب ويتمسك بالشرعية التمثيلية، لابد للمجتمع المدني الحر والمواطن أن ينهض بدوره المتجلي في وضع قطار الحياة على الطريق القويم.

ويمكن أن نختم بهذه الكلمات ء المقتبسة من كتاب «العبودية الطوعية» الذي كتبه «إيتان دي لابويسي» سنة 1548 وهو في عمر 18 سنة – «إن الشعب الذي يستسلم بنفسه للاستعباد يعمد إلى قطع عنقه، والشعب الذي يكون حيال خيار العبودية أو الحرية، فيدع الحرية جانباً ويأخذ نير العبودية هو الذي يرضى بالأذى، بل يسعى بالأحرى وراءه».

eelaalam@gmail.com


الأغلبية الصــامتة أصــل الــــداء

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire